فصل: مناسبة الآيات لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
قوله تعالى: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} الضميرُ في {يَعْلمون} يجوز أن يكونَ للكفار، أي: لِما لا يَعْلم الكفار، ومعنى لا يَعْلمونها: أنهم يُسَمُّونها آلهةً، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمع، وليس الأمر كذلك، ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ، أي: لأشياء غيرِ موصوفةٍ بالعلم.
و{نصيبًا} هو المفعول الأول، والجارُّ قبلَه هو الثاني، أي: ويُصيِّرون للأصنام نصيبًا، و{مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} يجوز أن يكونَ نعتًا ل {نصيبًا}، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ. ف {مِنْ} على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البناتِ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون، وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ {ما} منصوبةَ المحلِّ عطفًا على {البناتِ} و{لهم} عطفٌ على {الله}، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.
قال الشيخ: وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية: وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر، فلا يجوز: زيدٌ ضربه، أي: ضربَ نفسَه، ولا زيدٌ مَرَّ به، أي: مرَّ بنفسه، ويجوز: زيدٌ ظنَّه قائمًا، وزيدٌ فَقَده وعَدِمه، أي: ظنَّ نفسَه قائمًا وفَقَد نفسه وعَدِمها. إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ {ما} منصوبةً عطفًا على {البنات} يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو {يَجْعَلون} إلى ضميرِه المتصل، وهو {هم} في {لهم}. انتهى ملخصًا.
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصرًا: اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب، وفي فَقَد وعَدَمِ، فلا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، أي: ضربَ نفسه، ويجوز: زيد ظنَّه قائمًا، وظنَّه زيدٌ قائمًا، وزيد فَقَده وعَدِمه، وفَقَدَه وعَدِمَه زيد، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب، لا يجوز زيدًا ضرب، أي: ضربَ نفسَه.
وفي قولي: إلى ضميرِهما المتصلِ قيدان أحدُهما: كونُه ضميرًا فلو كان ظاهرًا كالنفس لم يمتنع نحو: زيدٌ ضَرَبَ نفسَه وضَرَبَ نفسَه زيدٌ، والثاني: كونُه متصلًا، فلو كان منفصلًا جاز نحو: زيدٌ ما ضربَ إلا إياه، وما ضرب زيدٌ إلا إياه، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ، وقد أَتْقَنْتُها في شرح التسهيل.
وقال مكي: وهذا لا يجوزُ عند البصريين، كما لا يحوز جعلتُ لي طعامًا، إنما يجوز: جعلتُ لنفسي طعامًا، فلو كان لفظُ القرآن ولأنفسِهم ما يَشْتَهون جاز ما قال الفراء عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير.
قلت: ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك.
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ {ما} في موضعِ نصبٍ عن الفراء ومَنْ تبعه، وقال ابو البقاء- وقد حكاه-: وفيه نظرٌ. قلت: وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال: وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه.
وقد يُقال: وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ، أي: وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو: زيدٌ مَرَّ به فإن المرورَ واقعٌ بزيد، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعًا بالجاعِلِين، بل بما يَشْتهون، وكان الشيخُ يَعْترض دائمًا على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25]. {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]، والجوابُ عنهما ما تقدَّم: وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}.
قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ} يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإِقامة نهارًا على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها، وأن تكونَ بمعنى صار، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ، و{مُسْوَدًّا} خبرُها، وأمَّا {وجهُه} ففيه وجهان، المشهور- وهو المتبادَرُ إلى الذهن- أنه اسمها، والثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ المستتر في {ظل} بدلُ بعضٍ من كل، أي: ظلَّ أحدُهم وجهُه، أي: ظلَّ وجهُ أحدِهم.
قوله: {كَظِيم} يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]، والجملة حال من الضمير في {ظَلَّ}، أو مِنْ {وجهه}، أو من الضمير في {ظَلَّ}، وقال أبو البقاء هنا: فلو قُرِئ {مُسْوَدٌّ} يعني بالرفع لكان مستقيمًا، على أن تَجْعَلَ اسمَ {ظَلَّ} مضمرًا، والجملةُ خبرها، وقال في سورة الزخرف: ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ {ظلَّ}.
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59)}.
قوله تعالى: {يتوارى} يحتمل أن تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالًا ممَّا كانت الأُوْلى حالًا منه، إلا مِنْ {وجهُه} فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن تكونَ حالًا من الضمير في {كظيم}.
قوله: {مِنَ القوم مِن سواء} يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلة، أي: من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به.
قوله: {أَيُمْسِكُهُ}. قال أبو البقاء: في موضع الحال تقديرُه: يَتَوارى متردِّدًا. هل يُمْسكه أم لا، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً، والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل {يتوارى} المتممِ للكلام، أي: يتوارى ناظرًا أو مفكَّرًا: أيُمْسِكُه على هُوْن.
والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتبارًا بلفظ {ما} وقرأ الجحدريُّ {أَيُمْسِكُها}، {أَمْ يَدُسُّها} مُراعاةً للأنثى أو لمعنى {ما}، وقُرِئ {أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ}.
والجحدريُّ وعيسى قرا على {هَوان} بزنة {قَذَالٍ}، وفرقةٌ على {هَوْنٍ} بفتح الهاء، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن {الهَوْن} بالفتح الرِّفقُ واللين، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهَوان فبمعنى هُوْن المضمومة.
قوله: {على هُونٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال: يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه.
والثاني: أنه حالٌ من المفعولِ، أي: يُمْسِكها ذليلةً مُهانةً.
والدَّسُّ: إخفاء الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)} أي يجعلون لما لا يعلمون وهي أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم نصيبًا من أرزاقهم؛ فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا.
{تَاللهِ} أقسم إنهم سيلْقَوْن عقوبةَ فِعْلِهم.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}.
من فَرْطِ جهلهم وصفوا المعبودَ بالولد، ثم زاد اللَّهُ في خذلانهم حتى قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يكرهون البنات، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم، ويلتحق بهؤلاء في استحقاق الذمِّ كلُّ مَنْ آثر حَظَّ نَفْسِه على حقِّ مولاه، فإِذا فعل مَالُه فيه نصيبٌ وغرضٌ كان مذمومَ الوصف، ملومًا على ما اختاره من الفعل.
ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه وتصفون به من كراهةِ أَنْ تُولَد لهم الإناثُ.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}.
استولت عليهم رؤية الَخْلق، وملكتهم الحيرة، فَلحَقُّوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البَعْلِ فيهن وهذه نتائج الإقامة في أوطان التفرقة، والغيبة عن شهود الحقيقة.
ثم قال: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي يحبس المولودَ إذا كان أنثى على مَذَلَّة، {أَمْ يَدُسُّهُ في التُّرَابِ} ليموت؟ وتلك الجفوةُ في أحوالهم جعلَتْ- من قساوة قلوبهم في أحوالهم- العقُوبةَ أشدَّ مما كانت بتعجيلها لهم، وجَعَلَهُم فرطُ غيظهم، وفَقْدُ رضائهم، وشدة حنقهم على من لا ذنبَ له من أولادهم- من أهل النار في دَرَكَاتِ جهنم، وتكدَّر عليهم الوقتُ، واستولت الوحشةُ ونعوذ بالله من المَثَلِ السوء!. اهـ.

.تفسير الآيات (60- 63):

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان شرح هذا أنهم تكلموا بالباطل في جانبه تعالى وجانبهم، بين ما هو الحق في هذا المقام، فقال تعالى على تقدير الجواب لمن كأنه قال: فما يقال في ذلك؟ مظهرًا في موضع الإضمار، تنبيهًا على الوصف الذي أوجب الإقدام على الأباطيل من غير خوف: {للذين لا يؤمنون} أي لا يوجدون الإيمان أصلًا {بالآخرة مثل} أي حديث {السوء} من الضعف والحاجة والذل والرعونة {ولله} أي الذي له الكمال كله {المثل} أي الحديث أو المقدار أو الوصف أو القياس {الأعلى} من الغنى والقوة وجميع صفات الكمال بحيث لا يلحقه حاجة ولا ضعف ولا شائبة نقص أصلًا، وأعدل العبارات عن ذلك لا إله إلا الله، ويتأتى تنزيل المثل على الحقيقة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في سورة الروم.
ولما كان أمره سبحانه وتعالى أجل مما تدركه العقول، وتصل إليه الأفهام، أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وهو} لا غيره {العزيز} الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له {الحكيم} الذي لا يوقع شيئًا إلا في محله، فلو عاملهم بما يستحقونه من هذه العظائم التي تقدمت عنهم لأخلى الأرض منهم {ولو يؤاخذ الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال {الناس} كلهم.
ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم- الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه- شديد المنافاة لها، وكان الشرك- الذي هذا سياقه- أظلم الظلم، قال معبرًا بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل ولما هم منطوون وهو وصف لهم ولم يباشروه إلى الآن بالفعل قال: {بظلمهم} أي يعاملهم معاملة الناظر لخصمه المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة لأن دلالتها على المناقشة أبلغ {ما ترك} ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض سواء كان على الظهر أو في البطن مغمورًا بالماء أو لا فقال تعالى: {عليها} أي الأرض المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي فقال تعالى: {من دآبة} أي نفس تدب على وجه الأرض، لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام {ولكن} لا يفعل بهم ذلك فهو {يؤخرهم} إمهالًا بحكمته وحلمه {إلى أجل مسمى} ضربه لهم في الأزل.
ولما قطع العلم بالغاية عما يكون، سبب عن ذلك الإعلام بما يكون فيه فقال: {فإذا جاء أجلهم} الذي حكم بأخذهم عنده {لا يستأخرون} أي عنه {ساعة} أي وقتًا هو عام التعارف بينكم، ثم عطف على جملة الشرط من أولها قوله تعالى: {ولا يستقدمون} أي عن الأجل شيئًا.
ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى: {ويجعلون لله} أي وهو الملك الأعظم {ما يكرهون} أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال: {وتصف} أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولًا لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال: {ألسنتهم} أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل {الكذب} ثم بينه بقوله: {أن لهم الحسنى} أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل: فما لهم عنده؟ فقيل: {لا جرم} أي لا ظن ولا تردد في {أن لهم النار} التي هي جزاء الظالمين {وأنهم مفرطون} أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني: متروكون فيها، من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحدًا، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله.
ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون: إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديدًا، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعلى {لقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة، رسلًا من الماضين {إلى إمم} ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال: {من قبلك} كما أرسلناك إلى هؤلاء {فزين لهم الشيطان} أي المحترق بالغضب.
المطرود باللعنة {أعمالهم} كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم {فهو} لا غيره {وليهم اليوم} بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم {ولهم عذاب أليم} فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه.